لن تموت فى العشرين
وفي فيلم «ستموت في العشرين» للمخرج السوداني أمجد أبو العلا، الحائز على عدة جوائز عربية وعالمية، حملت سكينة مولودها الجديد إلى الشيخ لكي تنال مباركته لمولودتها الجديدة. وكان الشيخ يقود قافلة من الدراويش، تجوب القرى، كما هي عادة التجمعات الصوفية، ويقرعون الطبول، وينشدون المدائح النبوية، ويرقصون بعنف، مثل الذين يؤدون طقوس الزار المصرية، لطرد الجن والعفاريت والأشرار. الأرواح لعلاج المرضى ومباركة الأصحاء والمواليد. وتمر القافلة بشكل عابر بقرية سودانية فقيرة نائية، في منطقة مليئة بأضرحة الأولياء والفرق الصوفية المنتشرة في كل أنحاء السودان طولاً وعرضاً، وتضم أكثر من أربعين شرح طريقة صوفية.
وبالإضافة إلى مظاهر التقشف والزهد والدروشة التي شكلت الطابع العام للصوفية، كان لهذه الحركة دور في التغيرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في السودان. لقد أصبحت تشكل سلوك معظم السودانيين، وتجذب الكثير من غير المتعلمين نحو الإيمان بما هو خارق للطبيعة ومعجزات وخرافات مشايخها، والتي أصبحت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالطقوس التي تدينهم. وفي هذه الطقوس يسمح مشايخ الصوفية بممارسة الرقص والغناء والطبول العنيفة، وذلك لجذب المزيد من المريدين لتولي شؤون دينهم بأنفسهم. ومن طرقها الشهيرة والتي تضم المدارس الختمية والتيجانية والأنصار والبرهانية والإسماعيلية.
وأشرق وجه الشيخ وهو يبارك للمولود الجميل “مزمل” -يعني الملتف بثوبه- خاصة أنه سمي على اسم النبي الكريم. وبينما كان يمطره بالدعاء ليكون قرة عين والديه، وأن يمد الله في عمره ويطول عمره… هنا انهار أحد دراويشه من إرهاق رقصه وهو يصرخ “عشرون”. وعندما تنكسر روح سكينة بسبب هذا الفأل السيئ الذي يطبع حياة طفلها بالموت في العشرين من عمرها، يقول لها الشيخ بثقة الفأل من عند الله، وكل شيء بقدر!
ينهمك الأب والأم في تجهيز كفن مزمل وقبره، ومزمل نفسه يحسب على جدار غرفة البيت المتواضع سنوات عمره المتبقية، ويعتزل الحياة استعدادا للقاء ربه وهو في العشرين من عمره. يستسلم للعدوان والتنمر المبالغ فيه على أقرانه الصغار، ويواصل تفانيه بقراءة القرآن وحفظه، بعد أن رفض التعليم. ورفض الاستجابة لأحلام الفتاة الجميلة نعيمة التي أعلنت له حبها له ورغبتها في الزواج منه. تتركه مهزومًا وحزينًا، لكنه ينهار وهو يستمع ليلة زواجها من شخص آخر إلى غناء وزغاريد أهل الحي.
وعندما التقى مزمل بالفنان الفوضوي المصور سليمان المحب للحياة أبدى رفضه لتصرفاته، مذكرا إياه بأن مصير كل البشر هو الموت عندما ينفذ أمر الله، وقال له بغضب كل شيء عنك يذكرني بالموت صوتك… حنانك… حنانك… الوحيد الذي قال لي سأموت بعد عشرين سنة أقول لهم دعوني أعيش ملكا وفي العشرين سأموت أريهم لساني.
يموت سليمان المسن بعد أن كان يعلم مزمل دروس الحساب، أما الحساب فيحمل رمزية أهمية استخدام العقل، في تناقضه الذكي والإبداعي مع علم الحساب الآخر، لحساب مرور الزمن في انتظار الموت. بعد وفاته، يتجرأ مزمل لأول مرة على اغتصاب صديقة سليمان، بعد أن بلغ العشرين من عمره ولم يمت.
ويحتوي المشهد الأخير من الفيلم على رسالته المهمة الداعية إلى التحرر من بقايا التخلف والجهل، وحافزاً للاندماج في الحياة والدخول فيها. فنرى مزمل الذي أدى دوره بنعومة وحساسية وقدرة ملحوظة، الممثل الشاب مصطفى شحاتة، يركض مسرعا خلف شاحنة تعبر القرية بسرعة فائقة، تاركا وراء ظهره الأسطورة التي شلت قدرته على التمثيل، وأغلقت بابه. عقله عن التفكير، وحرمته من الاستمتاع عشرين سنة من الانتظار القاتل. بالحياة نعمة الله على البشرية، ومن بذل الجهد في التأثير على أحداثها. ما أروع الركض نحو حب الحياة.